سورة الروم - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة، وتقدّم الكلام على محلها من الإعراب، ومحلّ أمثالها في غير موضع من فواتح السور. قرأ الجمهور: {غلبت الروم} بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبنياً للمفعول، وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرّة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين، واللام مبنياً للفاعل. قال النحاس: قراءة أكثر الناس: {غُلِبَتِ} بضم الغين وكسر اللام. قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين وقالوا: نحن أيضاً نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وكان المسلمين يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب.
ومعنى {فِي أَدْنَى الأرض}: في أقرب أرضهم من أرض العرب، أو في أقرب أرض العرب منهم. قيل: هي أرض الجزيرة. وقيل: أذرعات. وقيل: كسكر: وقيل: الأدرن. وقيل: فلسطين، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب. وقيل: إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه. والتقدير: في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم، ويكون المعنى: في أقرب أرض الروم من العرب. قال ابن عطية: إن كانت الوقعة بأذرعات، فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وإن كانت الوقعة بالجزيرة، فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن، فهي أدنى إلى أرض الروم {وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} أي والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون أهل فارس، والغلب والغلبة لغتان، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم. قرأ الجمهور: {سيغلبون} مبنياً للفاعل، وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرّة وابن عمر، وأهل الشام على البناء للمفعول، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قراءة الجمهور في الموضعين. وقرأ أبو حيوة الشامي وابن السميفع: {من بعد غلبهم} بسكون اللام.
{فِي بِضْعِ سِنِينَ} متعلق بما قبله، وقد تقدّم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف، والمراد به هنا ما بين الثلاثة إلى العشرة {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت غالبيتهم، فكلّ ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه، قرأ الجمهور: {من قبل ومن بعد} بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة، والتقدير: من قبل الغلب ومن بعده، أو من قبل كل أمر ومن بعده.
وحكى الكسائي {من قبل ومن بعدُ} بكسر الأوّل منوّناً وضم الثاني بلا تنوين.
وحكى الفراء {من قبلِ ومن بعدِ} بكسرهما من غير تنوين، وغلطه النحاس.
قال شهاب الدين: قد قرئ بكسرهما منوّنين. قال الزجاج: ومعنى الآية: من متقدّم ومن متأخر {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم، ولهذا سرّ المشركون بنصرهم على الروم. وقيل: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، والأوّل أولى. قال الزجاج: وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلاّ الله سبحانه: {يَنصُرُ مَن يَشَاء} أن ينصره {وَهُوَ العزيز} الغالب القاهر {الرحيم} الكثير الرحمة لعباده المؤمنين. وقيل: المراد بالرحمة هنا: الدنيوية، وهي شاملة للمسلم والكافر.
{وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} أي: وعد الله وعداً لا يخلفه، وهو ظهور الروم على فارس {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله لا يخلف وعده، وهم الكفار، وقيل: كفار مكة على الخصوص. {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا} أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية. وقيل: هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع. وقيل: الظاهر: الباطل {وَهُمْ عَنِ الآخرة} التي هي النعمة الدائمة، واللذة الخالصة {هُمْ غافلون} لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه، أو غافلون عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها.
{أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ الله السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} الهمزة للإنكار عليهم، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، و{في أنفسهم} ظرف للتفكر وليس مفعولاً للتفكر والمعنى: أن أسباب التفكر حاصلة لهم، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه. وقيل: إنها مفعول للتفكر. والمعنى: أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئاً؟ و{ما} في: {ما خلق الله} نافية، أي لم يخلقها إلاّ بالحق الثابت الذي يحق ثبوته، أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض، أي بما خلق الله، والعامل فيها العلم الذي يؤدي إليه التفكر.
وقال الزجاج: في الكلام حذف، أي فيعلموا، فجعل {ما} معمولة للفعل المقدّر لا للعلم المدلول: عليه، والباء في: {إِلاَّ بالحق} إما للسببية، أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال، أي ملتبسة بالحق. قال الفراء: معناه: إلاّ للحق، أي للثواب، والعقاب. وقيل: بالحق: بالعدل. وقيل: بالحكمة. وقيل: بالحق، أي أنه هو الحق وللحق خلقها {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} معطوف على الحق، أي وبأجل مسمى للسماوات والأرض وما بينهما تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، وفي هذا تنبيه على الفناء، وأن لكل مخلوق أجلاً لا يجاوزه.
وقيل: معنى {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى}: أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون} أي لكافرون بالبعث بعد الموت، واللام هي المؤكدة، والمراد بهؤلاء: الكفار على الإطلاق، أو كفار مكة.
{أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض} الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار، والفاء في: {فَيَنظُرُواْ} للعطف على {يسيروا} داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ، والمعنى: أنهم قد ساروا وشاهدوا {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله، وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل، وجملة: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} مبينة للكيفية التي كانوا عليها، وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية، ومعنى {وَأَثَارُواْ الأرض}: حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا أسباب ذلك، ولم يكن أهل مكة أهل حرث {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء؛ لأن أولئك كانوا أطول منهم أعماراً، وأقوى أجساماً، وأكثر تحصيلاً لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} بالبينات، أي المعجزات. وقيل: بالأحكام الشرعية {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بتعذيبهم على غير ذنب {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والتكذيب.
{ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءُواْ} أي عملوا السيئات من الشرك والمعاصي {السُوأَى} هي فعلى من السوء ثأنيث الأسوأ، وهو: الأقبح، أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات. وقيل: هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، ويجوز أن تكون مصدراً كالبشرى والذكرى، وصفت به العقوبة مبالغة. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {عاقبة} بالرفع على أنها اسم كان، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازياً، والخبر السوأى، أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى أو الخبر {أَن كَذَّبُواْ} أي: كان آخر أمرهم التكذيب، وقرأ الباقون: {عاقبة} بالنصب على خبر كان، والاسم السوأى، أو أن كذبوا، ويكون التقدير: ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا، والسوأى مصدر أساؤوا، أو صفة لمحذوف.
وقال الكسائي: إن قوله: {أَن كَذَّبُواْ} في محل نصب على العلة، أي لأن كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله، أو بأن كذبوا، ومن القائلين بأن السوأى: جهنم، الفراء والزجاج وابن قتيبة وأكثر المفسرين، وسميت: سوأى لكونها تسوء صاحبها. قال الزجاج: المعنى: ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم، وجملة: {وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئونَ} عطف على كذبوا، داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين، أو في حكم الاسمية لكان، أو الخبرية لها على القول الآخر.
وقد أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: {الم * غُلِبَتِ الروم} قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم كانوا أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلاً خمس سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألا جعلته» أراه قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله: {الم غُلِبَتِ الروم} فغلبت، ثم غلبت بعد بقول الله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله} قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر.
وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه، وزاد: أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارس، ساء النبيّ ما جعله أبو بكر من المدّة وكرهه وقال: «ما دعاك إلى هذا؟» قال: تصديقاً لله ولرسوله فقال: «تعرّض لهم وأعظم الخطة واجعله إلى بضع سنين»، فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود، فإن العود أحمد؟ قالوا: نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية، فقمر أبو بكر، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هذا السحت تصدّق به».
وأخرج الترمذي وصححه، والدارقطني في الأفراد، والطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في الشعب عن نيار ابن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت: {الم * غُلِبَتِ الروم} الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك يقول الله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله} وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: {الم * غُلِبَتِ الروم فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} فقال ناس من قريش لأبي بكر: ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه، قال: فسموا بينهم ستّ سنين، فمضت الستّ قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ستّ سنين؛ لأن الله قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} فأسلم عند ذلك ناس كثير.
وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: «لا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع».
وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه.
وأخرج الفريابي، والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت: {الم غُلِبَتِ الروم} قرأها بالنصب يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله: {يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله}. قال: ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال: سيجيء أقوام يقرؤون: {الم غَلِبَتِ الروم} يعني: بفتح الغين، وإنما هي {غلبت}: يعني: بضمها، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا} يعني: معايشهم، متى يغرسون؟ ومتى يزرعون؟ ومتى يحصدون؟ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} قال: كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل.


قوله: {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي يخلقهم أوّلاً، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى موقف الحساب، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيئ بإساءته، وأفرد الضمير في: {يعيده} باعتبار لفظ الخلق، وجمعه في: {ترجعون} باعتبار معناه. قرأ أبو بكر وأبو عمرو: {يرجعون} بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب والالتفات المؤذن بالمبالغة. {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} قرأ الجمهور: {يبلس} على البناء للفاعل. وقرأ السلمي على البناء للمفعول، يقال: أبلس الرجل: إذا سكت وانقطعت حجته. قال الفراء والزجاج: المبلس: الساكت المنقطع في حجته الذي أيس أن يهتدي إليها، ومنه قول العجاج:
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا *** قال: نعم أعرفه وأبلسا
وقال الكلبي: أي: يئس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب، وقد قدّمنا تفسير الإبلاس عند قوله: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} أي لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله {وَكَانُواْ} في ذلك الوقت {بِشُرَكَائِهِمْ} أي بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء لله {كافرين} أي: جاحدين لكونهم آلهة؛ لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون وقيل: إن معنى الآية: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم، والأوّل أولى. {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} أي يتفرّق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله: {الله يَبْدَأُ الخلق} والمراد بالتفرّق: أن كل طائفة تنفرد، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، وليس المراد تفرّق كلّ فرد منهم عن الآخر، ومثله قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] وذلك بعد تمام الحساب، فلا يجتمعون أبداً.
ثم بيّن سبحانه كيفية تفرّقهم، فقال: {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: معنى أما: دع ما كنا فيه، وخذ في غيره، وكذا قال سيبويه: إن معناها: مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه. والروضة كل أرض ذات نبات. قال المفسرون: والمراد بها هنا: الجنة، ومعنى {يحبرون}: يسرون، والحبور والحبرة: السرور، أي فهم في رياض الجنة ينعمون. قال أبو عبيد: الروضة ما كان في سفل، فإذا كان مرتفعاً فهو: ترعة.
وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع، ومنه قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة *** خضراء جاد عليها مسبل هطل
وقيل: معنى {يحبرون}: يكرمون. قال النحاس: حكى الكسائي حبرته، أي أكرمته، ونعمته، والأولى تفسير يحبرون بالسرور كما هو المعنى العربيّ، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم، وفي السرور زيادة على ذلك.
وقيل: التحبير التحسين، فمعنى {يحبرون} يحسن إليهم، وقيل: هو السماع الذي يسمعونه في الجنة. وقيل: غير ذلك، والوجه ما ذكرناه. {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} بالله {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} وكذبوا ب {لِقَاء الآخرة} أي البعث والجنة والنار، والإشارة بقوله: {فأولئك} إلى المتصفين بهذه الصفات، وهو مبتدأ وخبره: {فِي العذاب مُحْضَرُونَ} أي مقيمون فيه. وقيل: مجموعون. وقيل: نازلون. وقيل: معذبون، والمعاني متقاربة، والمراد دوام عذابهم.
ثم لما بيّن عاقبة طائفة المؤمنين وطائفة الكافرين أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر، والخير العام فقال: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: فإذا علمتم ذلك فسبحوا الله، أي نزهوه عما لا يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي، وفي وقت الظهيرة. وقيل: المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس. فقوله: {حين تمسون}: صلاة المغرب والعشاء، وقوله: {وحين تصبحون}: صلاة الفجر، وقوله: {وعشيا} صلاة العصر، وقوله: {وحين تظهرون}: صلاة الظهر، وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وغيرهما. قال الواحدي: قال المفسرون: إن معنى {فسبحان الله}: فصلوا لله. قال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال: وسمعت محمد بن يزيد يقول: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات؛ لأن التسبيح يكون في الصلاة. وجملة: {وَلَهُ الحمد فِي السموات والأرض} معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح كما في قوله سبحانه: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} [الحجر: 98] وقوله: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] وقيل: معنى {وله الحمد} أي الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد، والأول أولى. وقرأ عكرمة: {حينا تمسون وحينا تصبحون}، والمعنى: حينا تمسون فيه، وحينا تصبحون فيه. والعشيّ: من صلاة المغرب إلى العتمة. قاله الجوهري، وقال قوم: هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، ومنه قول الشاعر:
غدونا غدوة سحرا بليل *** عشيا بعد ما انتصف النهار
وقوله: {عشيا} معطوف على حين {وفي السماوات} متعلق بنفس الحمد، أي الحمد له يكون في السماوات والأرض {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} كالإنسان من النطفة والطير من البيضة {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} كالنطفة والبيضة من الحيوان.
وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران. وقيل: ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم {وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس، وهو شبيه بإخراج الحيّ من الميت {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم. قرأ الجمهور: {تخرجون} على البناء للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي على البناء للفاعل، فأسند الخروج إليهم كقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} [المعارج: 43] {وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} أي من آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم، أي خلق أباكم آدم من تراب، وخلقكم في ضمن خلقه؛ لأن الفرع مستمد من الأصل ومأخوذ منه، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام، و{أن} في موضع رفع بالابتداء، و{من آياته} خبره {ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} {إذا} هي الفجائية، أي ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشراً تنتشرون في الأرض.
وإذا الفجائية، وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع: من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مكسوّاً لحماً فاجأ البشرية، والانتشار، ومعنى {تنتشرون}: تنصرفون فيما هو قوام معايشكم.
{وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا} أي ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً، أي من جنسكم في البشرية والإنسانية. وقيل: المراد: حوّاء، فإنه خلقها من ضلع آدم {لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا} أي تألفوها وتميلوا إليها، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي وداداً وتراحماً بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة، فضلاً عن مودّة ورحمة.
وقال مجاهد: المودّة: الجماع، والرحمة الولد، وبه قال الحسن.
وقال السديّ: المودّة: المحبة، والرحمة: الشفقة. وقيل: المودّة حبّ الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء. وقوله: {أن خلق لكم} في موضع رفع على الابتداء، و{من آياته} خبره {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور سابقاً. {لآيَاتٍ} عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة الدلالة على قدرته سبحانه على البعث والنشور {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادّة له يتحصل عنه، وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلاّ كالأنعام.
{وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والأرض} فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة، التي هي أجرام السماوات والأرض، وجعلها باقية ما دامت هذه الدار، وخلق فيها من عجائب الصنع وغرائب التكوين، ما هو عبرة للمعتبرين، قادر على أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم من قبوركم {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} أي لغاتكم من عرب وعجم، وترك، وروم، وغير ذلك من اللغات {وألوانكم} من البياض، والسواد، والحمرة، والصفرة، والزرقة، والخضرة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة، ويجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية، وفصل واحد وهو الناطقية، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم لا يلتبس هذا بهذا، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلاّ العالمون، ولا يفهمه إلاّ المتفكرون {إِنَّ فِي ذلك لآيات للعالمين} الذين هم من جنس هذا العالم من غير فرق بين برّ وفاجر، قرأ الجمهور بفتح لام العالمين، وقرأ حفص وحده بكسرها.
قال الفراء: وله وجه جيد لأنه قد قال: {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {لآيات لأُوْلِي الألباب} [آل عمران: 190] {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43].
{وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ} قيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار. وقيل: المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير، أي ومن آياته العظيمة أنكم تنامون بالليل، وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة، وابتغاؤكم من فضله فيهما، فإن كل واحد منهما يقع فيه ذلك، وإن كان ابتغاء الفضل في النهار أكثر. والأوّل هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى، والآخر هو المناسب للنظم القرآني ها هنا. ووجه ذكر النوم والابتغاء ها هنا، وجعلهما من جملة الأدلة على البعث: أن النوم شبيه بالموت، والتصرّف في الحاجات والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت {إِنَّ فِي ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي يسمعون الآيات والمواعظ سماع متفكّر متدبر، فيستدلون بذلك على البعث {وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً} المعنى: أن يريكم، فحذف {أن} لدلالة الكلام عليه كما قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
والتقدير: أن أحضر، فلما حذف الحرف في الآية والبيت بطل عمله، ومنه المثل المشهور: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وقيل: هو على التقديم، والتأخير، أي ويريكم البرق من آياته، فيكون من عطف جملة فعلية على جملة اسمية، ويجوز أن يكون {يريكم} صفة لموصوف محذوف، أي ومن آياته آية يريكم بها، وفيها البرق، وقيل: التقدير، ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته. قال الزجاج: فيكون من عطف جملة على جملة. قال قتادة: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم.
وقال الضحاك: خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث.
وقال يحيى بن سلام: خوفاً من البرد أن يهلك الزرع، وطمعاً في المطر أن يحيي الزرع.
وقال ابن بحر: خوفاً أن يكون البرق برقاً خلباً لا يمطر، وطمعاً أن يكون ممطراً، وأنشد:
لا يكن برقك برقاً خلبا *** إن خير البرق ما الغيث معه
وانتصاب {خوفاً} و{طمعاً} على العلة {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاء فَيُحْىِ بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدلّ بها على القدرة الباهرة. {وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والأرض بِأَمْرِهِ} أي قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه وقدرته بلا عمد يعمدها، ولا مستقرّ يستقران عليه. قال الفراء: يقول: أن تدوما قائمتين بأمره {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور، إذا دعاكم دعوة واحدة فاجأتم الخروج منها بسرعة، من غير تلبث ولا توقف، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع.
و {من الأرض} متعلق ب {دعا}، أي دعاكم من الأرض التي أنتم فيها، كما يقال: دعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ، أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة، أو متعلق بمحذوف يدلّ عليه تخرجون، أي خرجتم من الأرض، ولا يجوز أن يتعلق ب {تخرجون}؛ لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها، وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدّم بيانه، وقد أجمع القراء على فتح التاء في {تخرجون} هنا، وغلط من قال إنه قرئ هنا بضمها على البناء للمفعول، وإنما قرئ بضمها في الأعراف.
{وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض} من جميع المخلوقات ملكاً وتصرّفاً وخلقاً، ليس لغيره في ذلك شيء {كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي مطيعون طاعة انقياد. وقيل: مقرّون بالعبودية. وقيل: مصلون. وقيل: قائمون يوم القيامة كقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} [المطففين: 6] أي للحساب. وقيل: بالشهادة أنهم عباده. وقيل: مخلصون {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي هين عليه لا يستصعبه، أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم، وعلى ما يقوله بعضكم لبعض، وإلاّ فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض، بل كل الأشياء مستوية يوجدها بقوله: كن فتكون. قال أبو عبيد: من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء، فقوله مردود بقوله: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 30]، وبقوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيراً، كما في قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
أي عزيزة طويلة، وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي لست بواحد، ومثله قول الآخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل *** لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل، وقرأ عبد الله بن مسعود: {وهو عليه هين}.
وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن الإعادة أهون عليه، أي على الله من البداية، أي أيسر، وإن كان جميعه هيناً. وقيل: المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية، وقيل: الضمير في: {عليه} للخلق، أي وهو أهون على الخلق؛ لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون، ويقال لهم: كونوا فيكونون، فلذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة {وَلَهُ المثل الأعلى} قال الخليل: المثل الصفة، أي وله الوصف الأعلى {فِي السموات والأرض} كما قال: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] أي صفتها.
وقال مجاهد: المثل الأعلى قول: لا إله إلاّ الله، وبه قال قتادة.
وقال الزجاج: {وَلَهُ المثل الأعلى فِي السموات والأرض} أي قوله: {وهو أهون عليه} قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل. وقيل: المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء، وقيل: هو أن ما أراده كان بقول: كن، و{في السماوات والأرض} متعلق بمضمون الجملة المتقدّمة، والمعنى: أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى، ووصف به في السماوات والأرض، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأعلى، أو المثل، أو من الضمير في الأعلى {وَهُوَ العزيز} في ملكه، القادر الذي لا يغالب {الحكيم} في أقواله وأفعاله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُبْلِسُ} قال: يبتئس.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم: {يُبْلِسُ} قال: يكتئب، وعنه: الإبلاس: الفضيحة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {يُحْبَرُونَ} قال: يكرمون.
وأخرج الديلمي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة قال الله: أين الذين كانوا ينزّهون أسماعهم، وأبصارهم عن مزامير الشيطان؟ ميزوهم، فيميزون في كثب المسك والعنبر؛ ثم يقول للملائكة: أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي، قال: فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط».
وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال: ينادي مناد يوم القيامة... فذكر نحوه، ولم يسمّ من رواه له عن رسول الله.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي، والأصبهاني في الترغيب عن محمد بن المنكدر نحوه.
وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة، قال السيوطي: بسند صحيح، عن ابن عباس قال: «في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف، وغيرهم فيتحدّثون في ظلها، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه.
وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس قال: «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة».
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس، فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، فقرأ: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ}: صلاة المغرب {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: صلاة الصبح {وَعَشِيّاً}: صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: صلاة الظهر، وقرأ: {مِن بَعْدِ صلاة العشاء} [النور: 58].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} قال: المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: الفجر {وَعَشِيّاً}: العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: الظهر.
وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون» وفي إسناده ابن لهيعة.
وأخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح: {سبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحمد فِي السموات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَيُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» وإسناده ضعيف.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كُلٌّ لَّهُ قانتون} يقول: مطيعون: يعني: الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال: أيسر.
وأخرج ابن الأنباري عنه أيضاً في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال: الإعادة أهون على المخلوق، لأنه يقول له يوم القيامة: كن فيكون، وابتدأ الخلقة من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَلَهُ المثل الأعلى} يقول: ليس كمثله شيء.


قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً} قد تقدّم تحقيق معنى المثل، و{من} في: {مّنْ أَنفُسِكُمْ} لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محلّ نصب صفة لمثلاً، أي مثلاً منتزعاً، ومأخوذاً من أنفسكم، فإنها أقرب شيء منكم، وأبين من غيرها عندكم، فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة وأعظم وضوحاً. ثم بين المثل المذكور فقال: {هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِى مَا رزقناكم}. {من} في {مما ملكت} للتبعيض، وفي: {من شركاء} زائدة للتأكيد، والمعنى: هل لكم شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم؟ وهم: العبيد والإماء، والاستفهام للإنكار، وجملة: {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي، ومحققه لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم، أي هل ترضون لأنفسكم- والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية- أن يساووكم في التصرّف بما رزقناكم من الأموال، ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم؟ {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} الكاف نعت مصدر محذوف، أي تخافونهم خيفة كخيفتكم أنفسكم، أي كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية وملك الأموال وجواز التصرف، والمقصود نفي الأشياء الثلاثة: الشركة بينهم وبين المملوكين، والاستواء معهم، وخوفهم إياهم. وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم: ما تأتينا فتحدّثنا. والمراد: إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بدّ أن يقولوا: لا نرضى بذلك، فيقال لهم: فكيف تنزّهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟ فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة؛ بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله تعالى، ولم يبق إلاّ أنه الربّ وحده لا شريك له. قرأ الجمهور {أنفسكم} بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله {كذلك نُفَصّلُ الآيات} تفصيلاً واضحاً وبياناً جلياً {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها.
ثم أضرب سبحانه عن مخاطبة المشركين وإرشادهم إلى الحق بما ضربه لهم من المثل، فقال: {بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي لم يعقلوا الآيات، بل اتبعوا أهواءهم الزائغة، وآراءهم الفاسدة الزائفة، ومحل {بغير علم} النصب على الحال، أي جاهلين بأنهم على ضلالة {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله} أي لا أحد يقدر على هدايته؛ لأن الرشاد والهداية بتقدير الله وإرادته {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} أي ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً} شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه، وإقباله عليه. وانتصاب {حنيفاً} على الحال من فاعل أقم أو من مفعوله، أي مائلاً إليه مستقيماً عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة.
{فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} الفطرة في الأصل: الخلقة، والمراد بها هنا: الملة، وهي الإسلام والتوحيد. قال الواحدي: هذا قول المفسرين في فطرة الله، والمراد بالناس هنا: الذين فطرهم الله على الإسلام؛ لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، وهذا الخطاب وإن كان خاصاً برسول الله فأمته داخلة معه فيه. قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل: والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعاً مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم فيبقون بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة» وفي رواية: «على هذه الملة- ولكن أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}. وفي رواية: «حتى تكونوا أنتم تجدعونها» وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضداً لحديث أبي هريرة هذا، فكل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول جماعة من المفسرين، وهو: الحق. والقول بأن المراد بالفطرة هنا: الإسلام هو مذهب جمهور السلف.
وقال آخرون: هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة. والفاطر في كلام العرب هو المبتدئ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة، وإهمال معناها شرعاً. والمعنى الشرعيّ مقدّم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها المعنى اللغوي كقوله تعالى: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض} [فاطر: 1] أي خالقهما، ومبتديهما، وكقوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} [يس: 22] إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة، وهو ما ذكره الأوّلون كما بيناه، وانتصاب {فطرة} على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها.
وقال الزجاج: فطرة منصوب بمعنى: اتبع فطرة الله، قال: لأن معنى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ}: اتبع الدين واتبع فطرة الله.
وقال ابن جرير: هي مصدر من معنى {فأقم وجهك} لأن معنى ذلك: فطرة الله الناس على الدين.
وقيل: هي منصوبة على الإغراء، أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، وردّ هذا الوجه أبو حيان وقال: إن كلمة الإغراء لا تضمر إذ هي عوض عن الفعل، فلو حذفها لزم حذف العوض، والمعوّض عنه وهو إجحاف.
وأجيب بأن هذا رأي البصريين، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك.
وجملة {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة، أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه. وقيل: هو نفي معناه النهي، أي لا تبدّلوا خلق الله. قال مجاهد وإبراهيم النخعي: معناه: لا تبديل لدين الله. قال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد: هذا في المعتقدات.
وقال عكرمة: إن المعنى: لا تغيير لخلق في البهائم بأن تخصى فحولها {ذلك الدين القيم} أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له هو الدين القيم، أو لزوم الفطرة هو الدين القيم {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به. {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي راجعين إليه بالتوبة والإخلاص، ومطيعين له في أوامره ونواهيه. ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
فإن تابوا فإن بني سليم *** وقومهم هوازن قد أنابوا
قال الجوهري: أناب إلى الله: أقبل وتاب، وانتصابه على الحال من فاعل أقم. قال المبرد: لأن معنى {أقم وجهك}: أقيموا وجوهكم. قال الفراء: المعنى: فأقم وجهك ومن معك منيبين، وكذا قال الزجاج، وقال: تقديره: فأقم وجهك وأمتك، فالحال من الجميع. وجاز حذف المعطوف لدلالة منيبين عليه. وقيل: هو منصوب على القطع، وقيل: على أنه خبر لكان، محذوفة، أي وكونوا منيبين إليه لدلالة {ولا تكونوا من المشركين} على ذلك، ثم أمرهم سبحانه بالتقوى بعد أمرهم بالإنابة فقال: {واتقوه} أي باجتناب معاصيه، وهو معطوف على الفعل المقدر ناصباً لمنيبين {وَأَقِيمُواْ الصلاة} التي أمرتم بها {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} بالله.
وقوله: {مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} هو بدل مما قبله بإعادة الجار، والشيع: الفرق، أي لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقاً في الدين يشايع بعضهم بعضاً من أهل البدع والأهواء. وقيل: المراد بالذين فرّقوا دينهم شيعاً: اليهود والنصارى. وقرأ حمزة والكسائي: {فارقوا دينهم} ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب، أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد.
وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل فريق بما لديهم من الدين المبني على غير الصواب مسرورون مبتهجون يظنون أنهم على الحق، وليس بأيديهم منه شيء.
وقال الفراء: يجوز أن يكون قوله: {من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً} مستأنفاً كما يجوز أن يكون متصلاً بما قبله {وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} أي قحط وشدّة {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ} أن يرفع ذلك عنهم واستغاثوا به {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي راجعين إليه ملتجئين به لا يعوّلون على غيره.
وقيل: مقبلين عليه بكل قلوبهم {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} بإجابة دعائهم ورفع تلك الشدائد عنهم {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} {إذا} هي الفجائية وقعت جواب الشرط لأنها كالفاء في إفادة التعقيب، أي فاجأ فريق منهم الإشراك وهم الذين دعوه، فخلصهم مما كانوا فيه. وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم، واللام في {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} هي لام كي. وقيل: لام الأمر لقصد الوعيد والتهديد، وقيل: هي لام العاقبة. ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم. قرأ الجمهور: {فتمتعوا} على الخطاب. وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول، وفي مصحف ابن مسعود: {فليتمتعوا}.
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا} أم هي المنقطعة، والاستفهام للإنكار والسلطان الحجة الظاهرة {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أي يدل كما في قوله: {هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] قال الفراء: إن العرب تؤنث السلطان، يقولون: قضت به عليك السلطان، فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة. وقيل: المراد بالسلطان هنا الملك {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} أي ينطق بإشراكهم بالله سبحانه، ويجوز أن تكون الباء سببية، أي بالأمر الذي بسببه يشركون {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} أي خصباً ونعمة وسعة وعافية {فَرِحُواْ بِهَا} فرح بطر وأشر، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58]. ثم قال سبحانه: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدة على أي صفة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب ذنوبهم {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} القنوط: الإياس من الرحمة، كذا قال الجمهور.
وقال الحسن: القنوط: ترك فرائض الله سبحانه. قرأ الجمهور: {يقنطون} بضم النون. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها. {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} من عباده ويوسع له {وَيَقْدِرُ} أي يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له، وفي التضييق على من ضيق عليه {إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع، وغريب الخلق.
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك: لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله: {هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء} الآية.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هي في الآلهة، وفيه يقول: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} قال: دين الله {ذلك الدين القيم} قال: القضاء القيم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن الأسود ابن سريع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين، فانتهى القتل إلى الذرية، فلما جاؤوا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملكم على قتل الذرية؟» قالوا: يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين، قال: «وهل خياركم إلاّ أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلاّ على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها».
وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً» رواه أحمد عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر.
وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فقال في خطبته حاكياً عن الله سبحانه: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» الحديث.

1 | 2